تخطى إلى المحتوى

الدروز والتفاعل الوطني في بدايات القرن الماضي

الدروز


حافظ قرقوط
لا شك بعد غياب شمس الإمبراطورية العثمانية، دخل الشرق الأوسط بتاريخ جديد منقطع عن سابقه من حيث الحكم والإدارات والخرائط الجغرافية والمبادلات التجارية وغير ذلك مما يلامس حياة الناس، وتشكلت المملكة السورية بعد دخول فيصل بن الحسين التي انتهت مع الدخول الفرنسي إلى البلاد وما حمله من مفاهيم مختلفة بعد معركة ميسلون غربي دمشق.
بدأ الإحساس بالانتماء للقومية السورية العربية يتنامى ويترسخ في تلك الفترة من بدايات القرن العشرين بشكل أكثر وضوحاً، وتلاه تطور فكري لمفهوم الدولة في تلك المراحل البسيطة المتلاحقة، مع ملاحظة انعدام وسائل الاتصال بين أركان تلك القومية، وأيضاً ندرة وجود أشخاص قادرين على القراءة والكتابة، بسبب التجهيل الذي عانت منه المنطقة خلال قرون، مترافقاً مع عدم وعي للعمل السياسي والمدني إلا في أوساط محددة بالمدن الكبرى كدمشق وحلب وعلى نطاق ضيق كحزب الاستقلال 1919 وحزب الاتحاد السوري 1918، ثم بعد الانتداب الفرنسي انعقد المؤتمر السوري العام 1921 في جنيف.
في جنوب سوريا كانت الجغرافيا العامل الأساس في تكوين الحس الجمعي متأثراً بالتركيبة العشائرية التي تمتد نحو الأردن وبعض المناطق السعودية، ولعل الانتماء العشائري الذي كان يتفوق على الانتماء القومي بسبب كونه غطاء حماية للفرد بغياب قوانين دولة ناظمة للحياة العامة وحافظة للحقوق هو الذي أسس لمفاهيم متنوعة، بعضها منسجم مع الواقع والبيئة أو الحاضنة الكلية لمجموع العشائر، وبعضها يحمل بداخله تبايناً لكنه منسجم داخلياً بحسب موروث العادات والتقاليد العربية ومنها البدوية، وما تحويه من قيم زرعت في ضمائر الناس مفاهيم هامة منها عزة النفس والشجاعة والكرم والتعاضد وغير ذلك من معان حافظت على بنية المجتمعات في تلك الفترة، ومنها “الدروز” أو الموحدون المسلمون كما يحبون أن يعرّفوا.
الدروز “وهي تسمية جاءتهم تاريخياً بعد قتلهم لنشتكين الدرزي بسبب الفسوق الذي عاشه”، هم إذا استندنا على العادات والتقاليد الداخلية وعلى الموروث الشعري الشعبي، عبارة عن مجتمع عشائري أثر وتأثر بجواره خلال قرون خلت، يعتزون بأصولهم العربية القديمة، وكان مقياسهم العام لأدائهم ضمن الحاضنة الجغرافية هو هذا الانتماء الذي لم يساوموا عليه وهذا موثق في الموروث الشعبي لهم كعشيرة عربية، ولعل لفظهم الدقيق والسليم لكافة الأحرف العربية يدل على ذلك، وربما هم الجماعة الوحيدة التي مازالت تنطق أحرف اللغة كاملة حتى في لهجتهم العامية دون تبديل أي حرف منها.
إلا أن العشائرية بالنسبة للدروز اختلطت مع التركيبة الدينية لهم كجماعة مستقلة مقابل عشائر وجماعات أخرى يجمعها على اختلافها أنها سنية، وعلى هذا كان تطور مفاهيم الانتماء العام للدروز ضمن المحيط متداخلا مع هذه الروابط، وأثرت بشكل عام على عدم انصهارهم الكلي مع المحيط الذي وإن طغت عليه الصبغة العشائرية إلا أن الدين كان له فعله فيه، وهذا التباين الذي استغله الاستعمار قديماً أثر حقيقة بشكل سلبي في طريقة التواصل بين مكونات المنطقة، وبقي التوازن العشائري هو المؤثر، لكنه ليس توازن قوى ونفوذ فقط بل توازن حضور وتفاعل ساهم بشكل أو بآخر باستقرار وتطور المدن الصغيرة والقرى بعيداً عن أثر قوانين دولة مركزية بالأساس هي ضعيفة.
لم تسجل نزاعات خارجة عن المألوف في تلك المرحلة من الربع الأول من القرن العشرين ما بين الدروز ومحيطهم السني، بل قد تكون حصلت نزاعات فردية مألوفة بين كل تلك العشائر وليس مع الدروز كطائفة، ولم تسجل ذاكرة من سمعت لهم من الرجال الدروز الذين عاصروا تلك الفترة أحداثاً أليمة أو ثارات دموية، بل كانت أية حوادث عابرة يتم حلها بطرق عشائرية اختزنتها قيم الماضي حسب العادات والتقاليد السائدة بين العشائر بحل النزاعات، وحينها كان للواجهات الاجتماعية دورها في تثبيت السلم الأهلي وتحجيم الخلافات، وهذا الأمر ينطبق على عشائر وعائلات الجارة درعا بقراها ومناطقها، ولعلي أستطيع أن أذكر هنا أن والدي حمد قرقوط أحد مجاهدي الثورة السورية الكبرى والذي ولد بمطلع القرن المنصرم قد ذهب وهو طفل في عام 1911 للتعلم في جامع بصرى الشام بما يلزم ذلك من إقامة، ومن المعلوم أن أية أسرة لن ترسل طفلا لمكان بعيد إن لم تتوفر عوامل الأمان، فكيف بدرزي يذهب لمعقل سني، ولعل ذاكرته التي رافقها قدرته على القراءة والكتابة والتي كانت مرجعاً لعدد من الكتاب بما فيهم بعض المستشرقين، أعطت لنا معلومات ستكون خلفية لي هنا في تصوير ذلك الواقع الذي أتطرق له.
رغم أن المذهب الدرزي من المذاهب الباطنية، إلا أن الدروز اعتبروا دائماً أن السنة هم الأمة، وعندما يقال الأمة هنا يقصد فيها الأمة العربية الكبرى التي أصلا لم يكن أحد يدرك حدودها الطبيعية في ذلك الزمن، ولكن انتماءهم للأمة السورية هو مفهوم وطني واكب تشكيل الدول في منطقة الشرق الأوسط بعد رسم خرائطه من قبل فرنسا وبريطانيا، وتطور هذا المفهوم وطريقة التفاعل معه مع تطور الأحداث السياسية لاحقاً، وبالمقابل كان الخوف من المجهول والمبني على هواجس دينية حول مسألة الكفر والإيمان ونظرة محيطهم السكاني لهم القائمة على هذا الاعتبار، جعلتهم يغالون في انغلاقهم الديني بذات الوقت الذي يتلهفون فيه لقيام دولة حامية ومستقرة، ومن هنا كان ارتباطهم بالقومية العربية كركيزة تقود إلى سقف حام وضامن لوجودهم كعرب أقحاح ضمن هذه البيئة دون النظر إلى العامل الديني، وعلى هذا شاركوا أيضاً في تأسيس الوطن السوري.
أما صراعهم مع البدو فهو صراع عشائري خارج أي اعتبارات دينية واضحة، وهو يعود لسلطة النفوذ العشائري على الأرض والرعي كون الدروز مزارعين ويهتمون بتربية المواشي، وهذا الصراع لا ينفصل عن الصراع العشائري تاريخياً، بل كان الدروز وجيرانهم في حوران يتكاتفون في وجه الاعتداءات المتنقلة للبدو على أماكن الرعي، وقد تراجع ذلك في كامل المنطقة مع تطور الاستقرار وتقلص حجم البدو الرحّل الذين يتنقلون حسب المواسم الزراعية وحاجة الرعي.
داخلياً حكمت الزعامات الإقطاعية السويداء وابتدأت مع آل الحمدان قديماً، ثم انتقلت إلى آل الأطرش وبعض العائلات النافذة، وكان لثورة العامية بالمحافظة سنة 1890 ضد الإقطاع دور في تراجع القبضة الإقطاعية، بحسب عدة مراجع منها كتاب “الصراع على السلطة في سوريا” للدكتور نيقولاس فان دام الذي نقله بدوره عن كتاب “شبلي العيسمي في عارف النكدي، التعريف بمحافظة السويداء”، لكن النفوذ العائلي بقي مستمراً بشكل عام، وبناء عليه توزعت سلطات النفوذ الاجتماعية في مناطق المحافظة تبعاً للثقل العائلي، ولا يوجد هناك ترابط كامل بين السلطة الدينية والنفوذ العائلي، فكلا الواجهتين اللتين مثلتا السلطة الداخلية بالمشهد الدرزي كانتا تتبعان أسلوب التوريث داخل العائلة الواحدة، ولكن غالباً ما كانت تلك السلطات تتقاسم المهام المرتبطة بالشأن العام للمحافظة، وهي تتبع لتوازنات عائلية وليست دينية برغم الأهمية الروحية لرجال الدين، وهذا ما أعطى مساحة لظهور رجال لهم ثقلهم الاجتماعي وأثرهم في المجتمع بما يمتلكونه من قدرات ذاتية كسلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى بصفته شخصية وطنية فاعلة، رغم أنه ابن للزعامة الطرشانية لكنه وقف حتى بوجه عمه سليم الأطرش الذي اتهمه بمحاولة شق العائلة والطائفة وهدده كي يتراجع عن مواقفه، لكنه قابل التحدي بتحد واتجه نحو الرابط العربي مع عدد لا بأس فيه من الشخصيات العامة التي أثرت في تطور الوعي الداخلي ثقافياً واجتماعياً في تلك المرحلة من القرن الماضي، لكن أياً كانت التوصيفات فمن الواضح أن مسألة توريث الزعامة المستقاة من عادات عشائرية قديمة بالمنطقة بقيت تحافظ على وجودها داخل الطائفة لعدم تطور مفهوم المجتمع المدني بشكل فاعل.
يمكن القول هنا إن انفتاح الدروز عبر هذه النخبة على المكونات السورية في نهاية الربع الأول من القرن الماضي والذي قابله أيضاً تفاعل وطني للمكونات السورية وبالذات السنة معهم أخذ طريقه على أرض صلبة، وكلاهما يصبان في اتجاه قومي عروبي، وقد يكون نقل هذا المثال مما ذكره منصور بن سلطان الأطرش بحسب الموسوعة العربية نموذجاً عن ذلك، إذ يذكر “هبّ سلطان مع فرسانه لنجدة يوسف العظمة في معركة ميسلون لكن المعركة كانت قد حسمت سريعاً فقال عندئذ: «خسارة معركة لا تعني الاستسلام للمحتلين»، ولذلك أرسل رسولاً خاصاً (الشهيد حمد البربور) إلى الملك فيصل ليقنعه بالمجيء إلى جبل العرب ومتابعة المقاومة، لكن الملك فيصل رأى أن الفرصة قد فاتت بعد أن صعد إلى ظهر الطراد البريطاني في طريقه إلى منفاه”.
وهذه الرسالة كان قد ذكرها لي والدي المجاهد حمد قرقوط أيضاً وكانت بعد مغادرة الملك فيصل الأول دمشق متجهاً إلى حيفا في فلسطين، حيث وصل المجاهد حمد البربور لإبلاغه فحواها وكان الملك فيصل قد أصبح على ظهر الطراد البريطاني نحو المنفى.
ولعل سلطان الأطرش ورفاقه في تلك المرحلة المبكرة من القرن الماضي، قد أصبحوا وجهاً لوجه أيضاً مع الواجهة الدينية المتمثلة بمشايخ العقل وقاضي المذهب الدرزي آنذاك، الذين ربما اعتقدوا أن تنامي شعبية وحضور سلطان الأطرش بخطابه الوطني قد تحد من سلطة خطابهم الديني الذي يستمد مفعوله من الانغلاق على الذات، وهذا ما فهمه الفرنسيون وحاولوا استغلاله، لكنه بقي حبراً على ورق، ويمكن هنا إيراد بيان سلطان الأطرش الذي وجهه للسوريين في 23 – 8 – 1925 والتدقيق بكلماته قد يعطي ملامح تلك المرحلة الغنية في انفتاح العقل السوري على بعضه، وتراجع الذهنية الطائفية إلى خلف المسألة الوطنية.
ـ إلى السلاح! إلى السلاح ـ
« يا أحفاد العرب الأمجاد.. هذا يوم ينفع المجاهدين جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم. هذا يوم انتباه الأمم والشعوب، فلننهض من رقادنا، ولنبدد ظلام التحكم الأجنبي عن سماء بلادنا. لقد مضى علينا عشرات السنين ونحن نجاهد في سبيل الحرية والاستقلال. فلنستأنف جهادنا المشروع بالسيف بعد أن سكت القلم، ولا يضيع حق وراءه مطالب »..
« أيها السوريون.. لقد أثبتت التجارب أن الحق يؤخذ ولا يعطى، فلنأخذ حقنا بحد السيف، ولنطلب الموت توهب لنا الحياة »..
« أيها العرب السوريون.. تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي. تذكروا أن يد الله مع الجماعة، وأن إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتحدة الناهضة لن تنالها يد البغي. ولقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير، وحرية التجارة والسفر، حتى في بلادنا وأقاليمنا »..
« إلى السلاح أيها الوطنيون.. إلى السلاح، تحقيقاً لأماني البلاد المقدسة. إلى السلاح، تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة. إلى السلاح، بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية، وتناسى الأماني القومية »..
« نحن نبرأ إلى الله من مسؤولية سفك الدماء، ونعتبر المستعمرين مسؤولين مباشرة عن الفتنة. يا ويح الظلم! لقد وصلنا من الظلم إلى أن نهان في عقر دارنا، فنطلب استبدال حاكم أجنبي محروم من المزايا الإنسانية بآخر من بني جلدته الغاصبين، فلا يُجاب طلبنا، بل يُطرد وفدنا كما تطرد النعاج! »..
« إلى السلاح أيها الوطنيون.. ولنغسل إهانة الأمة بدم النجدة والبطولة. إن حربنا اليوم هي حرب مقدسة، ومطالبنا هي:
1. وحدة البلاد السورية ساحلها وداخلها، والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة مستقلة استقلالاً تاماً.
2. قيام حكومة شعبية تجمع المجلس التأسيسي لوضع قانون أساسي على مبدأ سيادة الأمة سيادة مطلقة.
3. سحب القوى المحتلة من البلاد السورية، وتأليف جيش محلّي لصيانة الأمن.
4. تأييد مبدأ الثورة الفرنسوية وحقوق الإنسان في الحرية والمساواة والإخاء »..
« إلى السلاح.. ولنكتب مطالبنا المشروعة هذه بدمائنا الطاهرة، كما كتبها أجدادنا من قبلنا »..
« إلى السلاح.. والله معنا، والإنسانية معنا، ولتحيا سورية حرة مستقلة »..
                                                                              
      23/8/1925
  سلطان الأطرش
 قائد جيوش الثورة الوطنية السورية

%d مدونون معجبون بهذه: