هل تصبح القصة القصيرة خزان الثورة؟
حافظ قرقوط
“بالأمس قالت له: أشتهي غرفة صغيرة، دافئة معتمة؛ لأنام بعمقٍ، وأحلم بك من دون ضجيج القصف ومسير قطارات الخوف في رأسي، واليوم أصابها قناص الحيِّ وتحققت أمنيتها: غرفةٍ معتمةٌ هادئةٌ لكنها باردة”.
إن هذه القصة القصيرة جدًا بقلم زياد محمد دعبول، كُتبت خلال الثورة، ونُشرت في موقع زمان الوصل.
إنها نمط لانعكاس مفردات الألم السوري، وارتدادات الحرب على أفكارنا وأحاسيسنا، وعلى مفرداتنا الجديدة التي أصبحت سائدة حتى في أحاديثنا اليومية البسيطة، إن هذا الجنس الأدبي (القصة القصيرة) في ثورة، مخاضها عسير وطويل، قد يبرز كأحد أهم التعابير التي أفرزتها الثورة، وهذه الومضات أو الإضاءات السريعة، أعتقد أنها ستأخذ مكانها أكثر فأكثر في المرحلة القادمة، وربما ستشمل كل نوافذ الفن والإبداع.
القصة القصير -إجمالاً- نوع أدبي نثري أقصر من الرواية، تقدم موضوعًا واحدًا، أو تشير إلى موقف له علاقة بالحياة في زمن قصير ومكان محدود، وبشكل مركّز ومكثف، وبشخصية واحدة أو عدة شخصيات، يربطها المكان والحدث.
لم يأخذ هذا النوع من الأدب أو التعبير حقه في الحقبة السابقة، ولم ينتشر -بشكل واسع- مقابل الاهتمام بالرواية التي تصدرت قائمة التصنيف الأدبي على مستوى العالم، كجنس كتابي له الريادة، ربما سبب ذلك يعود إلى نمط الحياة السائدة، الذي يؤثر -دائمًا- في إنتاج البشر بكل أنواعه، بما فيها الآداب والفنون المختلفة؛ ففي القرن الماضي _على سبيل المثال_ سادت الأغاني الطويلة وتصدر مطربوها القائمة، ولكن مع التقدم الذي سارت إليه البشرية بتسارع كبير، تأثرت وتبدلت كل نواحي الحياة، بدءًا من قائمة الطعام، وصولًا إلى سهولة وسرعة الاتصالات وتبادل المعلومة، وهذا لا شك سينعكس أيضاً على إبداع الإنسان ونمطه بما فيه فن القصة.
لكل حقبة زمنية همومها وآلامها التي تفرزها، وأيضًا طبيعة مفرداتها ودلالاتها، والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أثرت فيها، وشكلت ثقافة الكاتب والقارئ.
ففي سورية تبدلت السياسة والأحداث وتلاحقت بشكل كبير في النصف الأول من القرن المنصرم، وساهمت في بداية تكوين وتأسيس انطلاقة القصة القصيرة في سورية، التي رافقت تلك التبدلات، وشكل روادها _في تلك الفترة_ خصوصيتهم، كسعيد حورانية، وعبد السلام العجيلي، وفؤاد الشايب، وغيرهم من الرواد، وساعد -في ذلك- انتشار الصحافة ودور الطباعة والنشر وخاصة بعد الاستقلال، ومرور سورية بفترة من الانفتاح السياسي والديموقراطي، وتنوع الفكر الإنساني ومصادره، وكذلك انتشار الأفكار الأيديولوجية، وغيرها من أسباب ساعدت في تشكيل رافد أدبي يؤثر في المجتمع. وقد يبني أغلب المثقفين فكرة الأدب الملتزم، وكان لهذا الاعتقاد السائد دورٌ كبيرٌ في التنوير المجتمعي، فيما رأى بعضهم أن الإبداع يجب ألاّ يؤطر كونه يحاكي الروح والأحاسيس ويأسرنا في متعة الكلمة والحكاية، ليعطينا قيمة أدبية.
الثورة السورية بعمقها ونبضها وما قدمته من أفكار وطاقات إنسانية متفجرة، وما أضافته من قيم للحرية وإصرار على التحدي، فجّرت معها -لا شك- طاقات إبداعية جديدة، وأطلقت العنان للأقلام والخيال واللغة، وبخاصة تلك التباينات في المشهد، مما قابلها من قسوة متشعبة ومتعددة الأوجه محليًا وخارجيًا، مع كل قصص الموت أو العذابات إن في السجون أو النزوح أو الفقدان أو الجوع والحصار وتشتت الأسر وتغير العواطف وسرعة الأحداث، وغيره كثير مما يمكن ذكره كتبدلات إنسانية وفكرية واجتماعية واقتصادية، ونمط المعيشة اليومي والسلوك، وهذا الكم من المفردات والصور والفيديو التي ساهمت في بلورة أفكار جديدة، فإن القصة القصيرة من أهم ما يمكن الإشارة إليه؛ لتوثيق هذه الثورة، بما فيها تلك الأسطر البسيطة التي نقرؤها في وسائل التواصل الاجتماعي التي يكتبها جيل شاب، يصور بعض تلك الحكايات التي عاشها أو شاهدها أو تخيلها.
قد تأتي أهمية القصة القصيرة، في الثورة السورية، من كونها قادرة على تكثيف الحالة، ونقلها بسلاسة وانتشارها بسرعة وسهولة. ولنأخذ على سبيل المثال بعض قصص المعتقلين التي تروى منهم أو عنهم، فإن توثيق تلك الحالات التي يتم سردها هي قصص من لحم ودم، كذلك قصص النزوح، إن كان داخل الحدود أو عبرها، أو المآسي التي حصلت في البحار، ومن يتابع، يجد أن الصحافة المطبوعة والإلكترونية والمجلات قد غصت بأعداد هائلة من تلك القصص، بعضها فردي لكنه يختصر حالة جماعية، وبعضها جماعي لكنه يجسد أفرادًا، بعضها -ربما- ينقصه ترابط لغوي وأدبي بسرده، وينقصه التركيز والتكثيف، ولكن ما يمكن قوله: إن مرحلة قادمة من نهضة القصة السورية، أظنها ستكون مهمة، وستضع لها مكانة مرموقة على مستوى العالم؛ كونها تستند إلى واقع، فيه من الرؤى والأحاسيس الصادقة والواقعية ما يفوق الخيال.
إن الثورة التي تعايشت وترعرعت مع الجغرافيا السورية بتفاصيلها، وعرفتنا على مدننا وقرانا وحاراتنا ولهجاتنا، قد جعلت للقصة القصيرة –أيضًا- حضورها، بل قد تكون انطلاقة جديدة هي الأهم في مسيرتها، لكون الذين تأثروا من هذه الحرب الظالمة هم بالملايين، ولكون البطولة الفردية –بدورها- تنوعت على كافة أفراد المجتمع خلال السنوات الماضية من عمر الثورة، فإن أفضل الأجناس التي يمكن أن تغطي كل تلك الآمال والآلام والتبدلات، هي القصة القصيرة، كومضة أو لوحة، تجسد حالة معينة مرتبطة بالمكان والزمان والأبطال.