السوريون ذكريات وهموم في الشتات

صفاء مهنا
أصبحوا هناك.. وهناك.. في كل بقعة من أرض الدنيا التي قبلت بوجودهم طواعية أم مجبرة، رحل الكثير منهم لا يحملون إلا ثيابا تغطي أجسادهم التي شاخت قبل الأوان.. وآخرون لملموا وثائقهم بعناية في حقائب صغيرة ربما لن يسعفها القدر عبور الماء بسلام.. فأتقنوا حمايتها لتكون دلالة على شخصياتهم في البر الآخر بالقارة العجوز.. لكنهم جميعا حملوا مآسيهم وأحزانهم التي لا تحتاج منهم توضيباً أو ترتيبا، فهي الحاضرة التي تطغى على كل شيء شاء حاملها أم أبى..
تركوا خلفهم كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة.. التي لا تعني أحدا إلاهم.. لكنها سافرت معهم صورا تحضر في أي مكان وأي زمان.. لتشعل من العواطف والهواجس ما كانت الأيام قد أطفأته.. فربما قطعة أثاث صغيرة في ركن من متجر في دولة ما، تولد الحنين لدى من ترك مثلها في بيته الذي بناه وأثثه بجهد وعرق لا أحد يعرفه سواه.. أو أغنية تصدح هنا كان لها قصة وذكرى معينة هناك، أو أصيص أزهار على شرفة.. تشبه تلك الشرفة التي ربما أصبحت أثراً بعد عين..
حمل السوريون ذكرياتهم معهم، تلك الذكريات التي في معظمها متشابهة، إن لم يكن على مدى العمر الذي عاشه كل منهم في سوريا، فإنها حكماً خلال تلك السنوات الخمس من عمر الثورة التي تشابه الحزن فيها عند الجميع، بل أكبر من الحزن، إنها المأساة التي اجتاحت قلوبهم وعقولهم، وكل خلية في أجسادهم..
هي الحرب عندما تحل في بقعة من الأرض.. ستحيلها خراباً سواء في البشر أوالحجر. والسوريون الذين توزعوا على جغرافيا العالم كله، تقاسموا كل تلك الهموم والأحزان التي خلفتها الحرب، وأصبحت حكاياتهم تجترها الليالي والأيام.. مهما تفاوتت تفاصيلها المؤلمة لكنها جميعها محبوكة بخيوط من القهر والألم، فما لاقاه السوريون لم يمر على شعب في التاريخ من آلة النظام العدوانية التي دمرت الإنسان جسدا وروحا، قبل أن تدمر البلد.
لكن في بعض الأحيان، يظلم الإنسان نفسه فوق ظلم الآخرين له، وربما من حيث لا يدري، فالكثير من العائلات التي هربت من براثن الحرب في سوريا، تبحث عن ملاذ يخفي قهرها ويدفن بعض آلامها ولو لفترة من الزمن، وتكبدت عذاب الطريق وتجارة اللجوء، ما إن حطت رحالها حتى ظهرت تراكمات الزمن المدفونة في النفوس تطفو على السطح..
لعل إحدى الصور المؤلمة التي ظهرت في دول اللجوء هي حالات الطلاق خاصة بين جيل الشباب في دول أوربا.. والتي لا يفسر حدوثها المرء إلا بناء على الترسبات المجتمعية التي تعاني منها جل الأسر السورية بل والشرقية.. والتي تتسم بالقهر مرة وعدم الاحترام والانسجام مرات ومرات بين الزوجين، فما تحين الفرصة لأحدهما للانعتاق حتى يترك الآخر مخلفا أسرة مفككة، تحمل مزيدا من الهم والإحباط ربما يفوق ما كان يحمله الطرفان في سوريا قبل رحلة اللجوء.
تنوعت القصص والحالات التي شهدها السوريون في أوربا، وربما أكثرها ما كانت فيها الزوجة هي التي تغادر الأسرة تاركة أب مع أطفاله، وهنا يبدأ الصراع على الأطفال، في ظل قوانين تختلف عن القوانين السورية في حقوق المرأة والطفل على السواء، لتكون رحلة شقاء من نوع آخر.
فهل كان ينقص السوريين كل تلك العذابات خلال العقود الماضية حتى تُفتح لهم جراح أخرى في دول الشتات، وهل ستكون الأيام القادمة كفيلة بردم العديد من الثغرات التي حفرت في النفوس والأرواح قبل أن ترسم خطوطها على الأجساد التي باتت أشبه بصناديق رميت أقفالها جانبا لتنضح بما تختزنه من ألم ومعاناة.