ملل ونحل أم مواطنون.. الدروز ومسيرة الدولة

إيمان حمد
ولدت جنوب سورية لعائلة تنتمي الى الأقلية الدرزية بمرحلة حافظ الأسد ولم أعاصر هوى أهل الجبل “السويداء” بجمال عبد الناصر.
ولكن في غرفة العائلة الكبيرة كانت صورة عبد الناصر بأكبر حجم معلقة على جدار الغرفة وأينما اتجهت كانت تلك الصورة تشاهدني ولم أشاهدها بعد إلا بعين طفلة تتهيب وقد تقدس ما يقدسه الأهل.
كان والدي يقرأ كثيراً وكنت اتتبعه مثل فراشة حول قنديل، وكلما ترك مايقرأ أسرع وأحاول أن أعرف
كان الأمر عصيا ومجهدا ولكن حاسة ما بداخلي وعدتني أن في وقت ما سأعرف وسأفسر لماذا أبى وقف من البعث موقفا سلبياً ولماذا علق صورة عبد الناصر ولماذا نبهني عندما دخلت الجامعة.
عالمي كفتاة هو فقط في فضاء الجبل والعالم الآخر هو قصي بل محرم ومجرم وعقابه عسير إذا كُتبت الحياة لي أن أعيش وأختبر وأقرأ كانت صعوبة ومشقة أن أتجاوز دائرة أنوثتي التي كانت تتوسط دائرة الشعور بالخصوصية وأن أتجاوز أيضاً حلقة الاطباق السلطوي
ولكن لسبب ما قد يتعلق الأمر بمهارة ما أو استعداد ما تابعت مجاهدتي لأصل للأجوبة وكانت أصعب مرحلة تلك التي انتقلت فيها مما استقر في ذاتي
في تقييم الأمور أي مرحلة المعرفة. مرحلة كانت مؤلمة شعرت فيها أن شرنقتي التي صنعها أبي وأمي ومجتمعي لا تحميني وليس لها أي قيمة في عالم يتعقد ويتشابك ويختلط ويتمايز ويتحاور ويتحارب.
كان السؤال كيف استل أسلحة قاطعة في هذا المعترك وقد أوصف بالارتداد والخيانة والخروج والطعن والمس بالمقدس؟
في الحياة العادية اليومية للدروز كانت الأمور تقيدها أعراف مجتمعية أكثر بكثير من أوامر دينية، وبت اعتقد أن الأمر تعلق كثيرا بأن العقيدة التوحيدية . ليست فرضاً بل خياراً ترك الهامش واسعاً للعقل الجمعي أن يتلقى ويشارك ويبدى رأياً.
هنا في هذا الحيز كان للدروز دولة في لبنان … وقيادة للثورة السورية وحبا منقطع النظير لعبد الناصر رمز العروبة.
العروبة كانت للدروز ميدان وبدأت أعرف لماذا كره أبي البعث، لقد أدرك مبكراً ربما، وبأسبقية أن الهوية التي صنعت لبرهة اندماجنا جاء البعث ليخلعها،
ولما أتى الأسد أعاد نظامه البلاد إلى الملل والنحل، وهنا ضاعت ملامح الارتسام الأول لدولة المجتمع الكلي ضمن عقد اجتماعي، ودخل الدروز الانكفاء والنزوع نحو نثريات وسرديات المقدس، الأمر الذي زاد بعدنا كأقلية مع خوف مبرر من سلفية تعتقد أن كل المسارات تهدف الى إقامة دولة الإسلام.
بكل الأحوال كان التفافنا حول عبد الناصر وشكيب أرسلان وكمال جنبلاط وسلطان الاطرش ماهو إلا دليل على أننا الأقدر لدخول الحداثة ومفهوم المدنية ، وكما كان الإسلام هو الحاضن لكل مسلك قمنا به عندما كان إسلاماً يعمل على ثقافة نهضوية وانسانية لابد من الانتظار لنهوض آخر بروح جامعة ضمن دولة مدنية حداثية نتساوى فيها أمام القانون ونختلف رؤى وفكرا في دروب الحياة.
أما كوني درزية تعيش المحرمات مضاعفة تفسر تماماً على ضوء أزمة الهوية وآليات الانتقال من الدوغما إلى ثقافة كونية.
إن التعلق برمز طائفي كان غائراً والتقديس لدرجة الدخول في شرنقة العزلة الكاملة بحجة التفوق الميتافزيقي بتطلب تغييراً واعياً لمفاهيمنا المشوهة بوصفها وعياً مزيفاً.