تخطى إلى المحتوى

إلى أخي.. لا أوكسجين في هذا الوطن

إلى أخي.. لا أوكسجين في هذا الوطن

هو ضيق لحدود أن رئتيك تبحث عن خرم إبرة ينفذ منه الهواء.

هو جافٌ لحدود أن أنفك لم يعد يستشعر رائحة البن في صباحات أضحت ساعاتها مواعيد للتأبين والوداع.

في بلاد بدت الشمس فيها غريبة لا دفء في أشعتها وشكل الضوء القادم منها يشبه ظلمة الكهوف.

 في بلاد تحولت بيوتها لكهوف لا خبز فيها لا مهباج قهوة ولا رائحة هال تدل على قاطنيها.. بلاد تلاحقهم في ظلمة القهر ومصائب الدهر المتجددة، لا لشيء سوى للتأكد من أن لا هواء يدخل جوفهم ولا فرصة لنجاتهم.

إلى أخي الذي بقي في بلاد كان اسمها وطن حين كانت الأوطان تركن خارج غبار المتاحف أو المقابر، تلك البلاد التي لطالما عشنا خدعة الزمن المركب حيث صدقنا ما كتب عنها من قيل وقال بأنها مهد للحضارات، لنكتشف أنها ليست سوى مهد للتوابيت وفنون الندب وعبور الجنازات ومراسم الدفن في مساحات غادرها الأوكسجين وسكنتها الفاجعة. في أقدم عاصمة للفواجع والمآسي والخراب.

أذكر كيف كنت تصر على القول بوقار صوتك: إن الصباحات الجميلة آتية لترسم شمسها ألوان الفرح وعنفوان ما قيل إنه دوّن في أساطير الزمان الغابر حيث آلهة البدايات أو الأساطير ستعيد نبض الحياة بإرادة أهل البلاد ليرووا حكايات مختلفة تحمل في رئتيها هواء بنكهة الجمال والنور والماء.

إلى أخي الذي رحل دون أن يمهلني لوداعه ولو بنظرة.. كيف أخبرك عن حقائق أخرى.. عن سنين هذا الزمن المتهالك التي تدرّجت إلى وباءات ولم تترك أيّة هيبة لبلاد أو لتراب وصخور كان اسمها وطناً قبل أن تتحول إلى مدافن أو تحال مع ساكنيها إلى ركام فوق ركام حضارات لم نتلمسها سوى على أوراق منمّقة برغبات من أرادها.. وثرثرة شعراء ثمارهم عجراء لم تطعم جائعاً ولم تحمِ ملهوفاً أو تنعش عطِشاً بقطرة ماء، لتصبح هي الأخرى أسطورة تسرد للأجيال القادمة – إن جاءت- قصة هذا الدمار في بلادنا حين بحث ساكنوها عن هواء في ألفية التكنولوجيا فوجدوا البلاء.

إلى أخي الذي أكد علينا مراراً أن نجد أدوات الصمود الطويل، فوباء الاستبداد نتن وسام لحدود لن نتخيلها.

إلى أخي الذي غادرني قبل أن أخبره عما رأيت من حصيلة الصمود في السنوات العجاف.

سأخبرك ولو بوهم المسافات مع وداع جنازتك التي لم أرها، أن تلك البلاد لا يشبهها تاريخ ولا جغرافيا، لا تشبهها أساطير أو فنتازيا.. هي ليست العنقاء ولا يوسف حين خرج من البئر.. هي خارج المألوف أو المتخايل..

حتى أنت خنتني ورحلت.. لماذا خنتني ولم تقبض بكلتا يديك وعزيمتك التي أعرف قوتها على قليل من الأوكسجين لنلتقي ولو للحظة.. إنها خيانة موصوفة بالشكل والمضمون..

لمن أحكي الآن أن السنوات العجاف التي مرت كانت غنائم حرب صبت أوكسجينها في جوف من ظنناهم رفاقاً في الفكر والنضال والآمال، وإذ بهم أسراب ديدان وجراد، يشبهون الأسد وجوفه البارد كسموم الأفاعي حيث تقاسموا الغنائم كما الشعارات التي لا روح فيها ورفعوا نخبهم معاً على روح البلاد وأبناء البلاد بلا وجل.
لماذا خنتني ورحلت بطوابير الجنازات في وطن الجنازات، قبل أن أقص عليك قصة معارضة ولدت ككل الوباءات واجتاحت ما بقي من آمال وأحلام بشر وحجر.

كيف أخبرك عن مثقفين انتفخت رؤوسهم بوهم الـ”أنا” حتى انفجرت سموماً بكل اتجاه.. مثقفون عملوا ما بين كتبة باسم مفكرين ومفكرين باسم مشايخ وعسكر ومراكز بحوث وقد تزينوا بنياشين أمعاء أطفال حاصرها القهر والجوع وبطولات خرقاء كانت على جثث من يبحث عن أوكسجينه بين البارود والبارود، أنت تذكر جيداً كم من هؤلاء في تلك البلاد يحبون التقلد بالنياشين كما باصاتها وجراراتها.

لماذا خنتني ومت قبل أن أعلمك عن أفكار لا روح فيها تغذت من دم الناس وأنشأت منظمات وهيئات وأحزاب ومشاريع إعلام وسفلة خرجوا يستعرضون صورهم بضحكات صفراء ونهبوا كل أوكسجين الثورة التي قيل أنها ستنعش البلاد.

إلى أخي.. رحلت قبل أن أخبرك أننا هواة طائفية وتعصب وعنصرية لحدود الموت، ونحن أجساد تراكمت في مجزرة زمنية قيل عنها وطن، بخل علينا بلقاء أو كأس ماء أو لحظة هدوء أو حبة دواء.

إلى أخي معضاد الذي لطالما كان “عضيداً” في الملمات ومؤنساً في الأفراح، وضحكته تملأ المدى أوكسجيناً وبهاء..

رحلت قبل أن نحكي خاتمة الحكاية، أن لا أوكسجين في تلك البلاد، ليس فيها إلا سموماً تلتهم الأنفاس من باطن الأجساد، إذ تحوّلت برمّتها لنعش تحيطه الغربان.

إلى معضاد.. من يترحم على من..

حافظ قرقوط

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: