تخطى إلى المحتوى

“ترام” دمشق… أين غادر؟

صفاء مهنا

صفاء مهنا

دمشق أعرفها بالقبة ارتفعت بالمرجة انبسطت بالشاطئ ابتردا.

كلمات قالها الشاعر جورج صيدح قبل عشرات السنين؛ متغنيًا بدمشق، حين كانت مدينة ترتدي من الجمال حلة، كما وثقتها لنا صور الأرشيف القديم، رغم أنها كانت بلونين فقط، الأبيض والأسود.

تلبس من عبق التاريخ تاجًا، وما زالت الأبنية العريقة تروي لنا حكايات التاريخ على الرغم مما ترك الدهر عليها من آثار.

كانت ساحة المرجة -حينذاك- هي الأشهر، بوصفها مركز المدينة، حيث كانت نقطة انطلاق وسيلة المواصلات الأجمل، “الترام”، إلى أحياء عدة في دمشق، وإلى بعض بلدات غوطتها الشرقية.

تعود بداية الترام في دمشق إلى أوائل القرن العشرين، إذ تذكر بعض المصادر، أن شركة تأسست باسم “الشركة العثمانية السلطانية للتنوير والجر والكهرباء بدمشق” بمساهمة شركة بلجيكية، وحصلت تلك الشركة على امتياز تنفيذ مشروع الترام في المدينة، تزامنًا مع توليد واستثمار الكهرباء وإنارة دمشق وضواحيها.

بدأت رحلة الترام في المدينة في العام 1907 من ساحة المرجة إلى باب مصر في منطقة الميدان، أعقبها بعد سنتين انطلاق خط آخر إلى الجسر الأبيض؛ ليكتمل بعد سنتين أخريين عام 1911 إلى منطقة المهاجرين.

أما الخط الثالث فكان يبدأ من الجسر الأبيض، وينتهي عند جامع الشيخ محي الدين ابن عربي، إضافة إلى خط رابع يصل إلى باب توما والعباسيين، كما كانت رحلة الترام تصل إلى بلدة دوما في الغوطة الشرقية مرورًا بقرى جوبر وزملكا وحرستا، لتعود في نهاية المطاف إلى ساحة المرجة.

يذكر أبو أحمد وفيق الذي كان فتى في تلك المرحلة من عمر سورية، وهو من أبناء حي الميدان، بحنين، كيف كان وأقرانه ينتظرون قدوم الترام بلهفة؛ ليستمتعوا برحلة فيه وإن قصيرة، حتى لو لم يمتلك بعضهم أجرة الرحلة.

وأضاف أبو أحمد بغصة، وهو يقارن بين ذلك الزمن، والواقع الذي آلت إليه دمشق “بشوارعها المكتظة، وسياراتها التي تنفث الدخان الأسود، والناس، وهي تتكدس في السرافيس أو باصات النقل بصورة يفقد فيها الراكب كرامته وهيبته”.

يروي أبو أحمد عن رحلاته التي كانت تسمى السيران إلى الغوطة، ولوجود الترام دور كبير في تفعيل هذا النشاط الاجتماعي، فقد “ساعد الناس كثيرًا في حركتهم وتنقلهم بين أحياء المدينة، إذ كانت وسيلة النقل آنذاك العربات التي تجرها الخيول، أما أنا وأصدقائي فكان لسيران الغوطة نكهة أخرى بواسطة الترام، فقد كان يعبر بنا بساتينها الجميلة حتى نصل إلى وجهتنا”.

ومن يتذكر ماضي مدينة دمشق الجميل وربوتها وغوطتها ونهر بردى، وما كان يجمع حوله من أمسيات وجلسات سمر، تلك التي كانت جميعها تضفي على دمشق الوداعة والجمال في حين معًا، لا بد من أن يتحسّر من تلك الحشرجة التي تنبعث من حواريها اليوم؛ بسبب ازدحام السكن ووسائل النقل بأشكالها وما تخلفه من فوضى وضجيج.  يتنهد أبو أحمد: “خلافًا لكل قواعد السير في الدنيا. في دمشق تفضل السير في الشوارع وبين السيارات، حتى تتجنب اصطدامك بصاحب كشك أو بسطة مزروعة في منتصف الرصيف”.

نعم هذا ما باتت عليه دمشق وأحياؤها، فساحة المرجة غدت في ظل حكم الأسد مكانًا موبوءًا، بل مرتعًا للفساد بأشكاله، وزيارتها تسبب الحرج لقاصدها، على الرغم من وجود عدد من الدوائر الرسمية التي لا غنى للسوري عن خدماتها.

كانت ساحة المرجة رمزًا للكرامة والتضحية، ولطالما تغنى بها السوريون ورفعوا أقواس النصر والزينة فيها؛ احتفاء بعودة الثوار من المنفى. ساحة المرجة التي تحمل اسم ساحة الشهداء حيث أُعدم فيها عدد من الأحرار والمفكرين، وكانت تلقي فيها السلطات الفرنسية بجثث من تعدمهم من المناضلين ضدها.

لكن هذه ليست قصة ساحة المرجة، ولا قصة محطة الترام الأقدم فحسب، بل هي حكاية الألم والحسرة التي خلفتها سنوات حكم فاسد امتدت قرابة خمسين عامًا، شهدت فيها دمشق أقدم العواصم في التاريخ، وأخواتها المدن السورية عامة، تدهورًا عمرانيًا وفنيًا وخدميًا على الصعد كافة، وفي حين تنهض مدن العالم وتسابق الزمن، كانت دمشق تتراجع أشواطًا إلى الخلف؛ حتى أضحت مدينة تبلغ درجات التلوث والتشويه فيها أعلى مبلغ.

أوقف الترام عن العمل عام 1962 لأسباب عُزيت إلى خسارة الشركة المعنية حينذاك، وعلى الرغم من أن قضبان سكة الترام ما تزال مسجّاة في بعض شوارع دمشق، إلا أنها طُمرت بالإسفلت في شوارع أخرى. فنظام الأسد عمل على تشويه المدينة بصورة ممنهجة، وقد فقدت دمشق خلال عقود حكمه كثيرًا من رونقها.

لا يزال مشروع خط “الترام، أو المترو” المزعوم يشق خاصرة دمشق الجنوبية، بدءًا من محطة الحجاز حتى بداية حي الميدان منذ عشرات السنين، شاهدًا على عقلية نظام الأسد تجاه شعبه وبلده، ففي حين بلغت المشروعات الخدمية في كثير من الدول “النامية” مستويات متقدمة، نجد أن المشروعات في سورية عامة وفي دمشق خاصة، لا ترقى إلى مستوى عراقة هذه المدينة.

أوقفت “حكومة” الأسد العمل في المشروع، وتركته جرحًا نازفًا في خاصرة دمشق. بقي كغيره من المشروعات شاهدًا على فساد نظام تعمّد الاقتصاص من عراقة الأماكن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: