منظمات الثورة أنانية وارتزاق ينحر الوطن

حافظ قرقوط
لم يكن ثقل نظام البعث على السوريين عادياً، فقد قصم ظهرهم وبالأخص فترة حكم الأسدين الأب والابن، وعلى مدار عقود كان حمله شاقاُ ومضنياً، إن على مستوى الدولة أم على مستوى المجتمع أو حتى الأفراد، ولم يكن تدمير البنية الفكرية والاقتصادية والنفسية حالة عبثية، بل ما وصلنا إليه خلال الثورة هو انعكاس طبيعي لتلك الحالة التي أسسها الأسد كحامل لنظامه.
في حقبة الاتحاد السوفيتي عمدت القيادات الروسية “الشيوعية” إلى تدمير الإنسان ككائن واعي يمكن أن يشكل فارقا في بناء الدولة، وكانت تفكر وتتصرف عنه وتقرر حتى أحلامه، فأخذ الأسد هذه العقلية السياسية عن تلك المنظومة وما دار بفلكها، في رومانيا أو يوغوسلافيا أو كوريا الشمالية أوغيرها، وعكس نظاماً أمنياً محكماً على كل أركان الفكر والفعل الإنساني في سوريا، وشل القدرة لدى المواطن على المبادرة والإبداع، وبالتالي ترهّل المجتمع وأخذ يستهلك ذاته ثقافياً وقيمياً ومادياً.
كانت أهم طرق الدخول لتفتيت المجتمع هو التعليم، حيث توازى مع تشكيل ما يسمى بمنظمة طلائع البعث، ليليها الشبية ثم عضوية الحزب والاتحاد الوطني لطلبة الجامعات، وهي حالة استعابية تهدف إلى مراقبة صارمة للسلوك اليومي للطفل فاليافع فالشاب، وكفيلة بتشويه انتمائه وتفكيره وخياراته، وأصبح النظام يسيّر الأفراد ضمن ممرات إجبارية لا تُقلق راحته.
وفي مجال العمل كانت الدولة التي سُرقت مؤسساتها تحت رعاية أمنية كاملة، وبالتالي الممر الإجباري للعمل هو الأمن والسلطة والوساطة المرتبطة بها، بدءاً من عامل نظافة في منطقة نائية إلى مدير بأعلى شهادة.
ترافق ذلك مع الإمساك برقابة صارمة على الاستثمار ونوعيته، ليصبح جزءا من منظومة واحدة لها سقف هو النظام وموافقاته المرتبطة أيضا بالأمن وبنوعية محددة من المستثمرين، وهم من يتقاسمون الأرباح والمصالح مع أركان النظام وبوليسه الأمني أو السياسي الذي لا يمكن فصله عن الأمني وإن تبدلت التسميات، ومن نقابات العمال إلى اتحاد الفلاحين كان الإمساك المتين بطبقات المجتمع الأكثر انتشارا على المساحة الجغرافية، ثم وبين هذه المفاصل عمد نظام الأسد إلى تكريس الروح الفردية الأنانية بالعمل، وحب الذات على حساب المجتمع، للحصول على امتياز أو فرصة ما، وبدأت تتوسع ما كان يسمى الارتباطات الأمنية.
هذه اللمحة السريعة لآلية نمو وعمل نظام الأسد من خلال تمثيله أو استيلابه للدولة يمكن أن نرى ملامحه بوضوح بمؤسسات المعارضة، فقد أثر ذلك بشكل مباشر على سلوك المعارضة السورية بعد الثورة وعلى نشاط بعض القوى التي التحفت بالثورة، إذ ساد سلوك حب الذات وحب الظهور واغتنام الفرص الشخصية والابتعاد عن روح العمل الجماعي، إن كان في العلاقات العامة أو في الحصول على تمويل من هنا أو هناك، وأيضا في طرق الوصول إلى العلاقات الدولية، وتسخيرها لمنافع شخصية وليست سورية، وانتشر هذا الأسلوب حتى على التنسيقيات ومن ثم المجالس المحلية والإغاثية والتعليمية وكذلك على الإعلام وتمويله، ليصل إلى الائتلاف والحكومة المؤقتة وغير ذلك، وبالتأكيد الفصائل العسكرية المختلفة وانتهازيتها في التعامل مع الظرف وما حصلته من غنائم حربها.
وهكذا أصبح العمل الثوري عبارة عن ارتزاق فردي تحت مسميات مختلفة، فأسس كل منتفع مكاتبه وأمّن موارده الخاصة، وأصبح مجرد موظف يعتاش على الأزمة الناتجة من تراكمات الحرب، وما خلفه إجرام النظام من دمار واعتقالات وهضم للحقوق وتشريد للناس .. الخ، والحقيقة فإن لومنا الدائم للمجتمع الدولي في تراخيه مع إيجاد نهاية لمأساة السوريين، هو قاصر إن لم نلم من كان كالسوس ينخر في جسد الثورة وهو يختبئ تحت شعاراتها ويخوّن من يشاء ويكفر آخر.
أحيانا هذا السوس يستند إلى الدين أو القومية وأحيانا أخرى إلى الدموع المتباكية على وطن ولا مانع من استذكار عظمة الشهادة والتضحية والانتماء وغيرها طالما أنها تحقق الهدف المنشود في الحصول على مغانم خاصة، فشتت المجتمع إلى أكثرية وأقليات وإلى عرقيات مختلفة، ثم في كل منها إلى حارات وتنظيمات، تماما كما تخبأ انتهازيو الأسد خلف شعاراتهم ليخنقوا بلداً.
إن طريقة تفكير النظام بعزل الحارات والقرى والمناطق ومن ثم المحافظات عن بعضها، ساعدت على أن يكون الطرف الآخر محدود التفكير، والانتماء لمستوى حصاره، ويسرت له التحكم فما يريد بالاستناد على النتائج التي دفعه بطش النظام إليها، لكن المقلق أن هذه البنية التي نمت كالطحالب في خلايا النسيج السوري الثائر، وإن بقيت على هذا المستوى، فهي ذاهبة بالبلد والمجتمع إلى حالة من التشظي الذي لا تحمد عقباه، هذا بالإضافة لنمو جيل جديد من الانتهازيين لهم قابلية النخر في كل بنيان لتهديمه علهم يحصلون على فتات ما.
الأخطر في الموضوع أن الحالة الشعبية العامة بعضها أصابه اليأس وبعضها بدأ يرحل فرديا باتجاه الهجرة البعيدة، كي ينجو منفردا، وبعضهم يتبع تلك الشعارات الملقاة عليهم كجمهور، فيصدقها من قلة الحيلة لديه وتنطلي عليه تماما كما انطلت على جمهور “التشبيح” الأسدي بأنه مخلصهم.
وهنا أهم ما يجب العمل عليه في المرحلة القادمة والخطرة والتي ستقرر مستقبل سوريا، حيث يجب إيجاد مؤسسات بديلة أكثر واقعية، إن كان في الإدارة أو الإعلام أو الإغاثة والتعليم وغيره، تتصرف باتزان ودون الالتفات للشائعات أو المحبطات، وتسير ضمن خطة ممنهجة تعيد رأب الصدع الذي تغلغل إلى الروح السورية، وذلك من خلال شخصيات عامة تفهم معنى التواضع لمواطنيها، لتسير معهم بروح أبناء الوطن الذين غايتهم إنتاج دولة بدءا من القاعدة التي عليها أن تحمل سقف الدستور والقانون وما يرافقهم، كي يكون البنيان سليماً ومعافى حتى لا ينهدم السقف على قاطني البيت السوري بعد سنوات، كما حصل الآن من تهدم نتيجة خبث الأسد في هدم البنية الإنسانية عبر عقود، والتي أوصلتنا إلى فقدان الحس الجمعي.
مادة نشرت في صحيفة إشراق في يناير/ كانون ثاني 2016