الدراما السورية وعيون السلطة

حافظ قرقوط
منذ انطلاق عصر الفضائيات وتوسعه، وتنوع المحطات التلفزيونية، بشكل واضح، توسعت في سورية -أيضًا- أعداد الشركات المنتجة، والمسوِّقة، للدراما والبرامج، وما إلى ذلك، ولكن، ولكونها مواد مصورة، تدخل البيوت بلا استئذان، وتشارك الناس ولائمهم واستراحاتهم وسهراتهم، كان لا بد من وضع قوانين صارمة، تكون عين النظام في كل شاردة وواردة، بدءًا من الموافقة الخطية على النص، ومن ثم الموافقة على الفيديو النهائي، مرورًا بترشيح بعض الممثلين، وموافقات التصوير الكلية، أو اليومية، في الأماكن العامة المختلفة.
ومن باب آخر، وبسبب التنافس الداخلي؛ للحصول على عرض -بوقت ملائم- على شاشة التلفزيون الرسمي وتوابعه، وبسبب الحاجة إلى تأمين تلك الموافقات الرقابية المختلفة، بشكل سلس، كان على مديري الشركات نسج علاقات مع رجال الأمن الأساسيين والفاعلين، ومع رجالات القصر الجمهوري، ومع بعض موظفي التلفزيون المتنفذين، وهنا فُتح باب الفساد عمدًا على مصراعيه، وهو ذاته باب ترشيح وتفضيل هذا المنتج على ذاك، تلك العلاقات والمحسوبيات، أصبحت -أيضًا- باب ترشيح هذا الممثل دون ذاك، ومن خلال تلك الموافقات، والمصالح المتشابكة، والرقابة النصية والمرئية؛ استطاع النظام الأمني السيطرة والتوجيه.
وهكذا كانت الخطط الدرامية، توضع بناء على أمزجة أشخاص، لهم علاقات وثيقة مع الأمن ومع أصحاب القرار أو المال بشكل عام، وليس من خلال علاقتهم بالإبداع أو بالثقافة أو بالمجتمع.
وقد فهم النظام مبكرًا أهمية العمل الدرامي في حياة الناس، وخاصة بعد تردي وضع المسرح السوري، وصالات السينما، هذا التردي كان -أيضًا- من منتجات النظام، وكون التلفزيون الوسيلة الأهم والأسرع، في تكريس فكرة ما في ذهنية المتلقي؛ فقد عمل على تسهيل الإنتاج الدرامي بشكل عام، فالنظام الذي كان -بكل بساطة- يتحكم بتلفزيونه الرسمي، وبطريقة ونوعية العرض قبل البث الفضائي، وبتعدد القنوات، وكان يأخذ جل الوقت؛ لبث الأخبار السياسية والبرامج التابعة لها، والمرتبط أغلبها بما يسمى “المنظمات الشعبية” التي أنشأها، وغيرها من برامج واحتفالات تخصه، و تربط “القائد” بشعبه؛ كونه حالة “استثنائية” في التاريخ، جاء البث الفضائي؛ ليربك هذه القاعدة، فحاول -في البداية- محاصرة الصحون اللاقطة في المنازل ومنعها، لكنه فشل؛ فعمل -بشكل جاد- على تنظيم جيشه الدرامي على شاكلة المنظمات الشعبية التي تسوّقه ، وتجذب العيون والعاطفة نحو سورية التي تحكمها سلطة الأسد.
لم تكن الدراما -بالتأكيد- تعني شخص الأسد الأب، أو الابن، ولكن السلطة المركزية الأحادية الأمنية منعت أي خلل أو خرق مهما صغر، وكان واضحًا أن الدراما أبعدت الناس عن متابعة الأخبار، ولم تعد للقنوات المحلية الرسمية القدرة على التأثير والاستقطاب، كما في السابق؛ فجاء التسويق لنجوم ومخرجين، يسوّقون بدورهم النظام، كسفراء سلطة سياسية، وليس سفراء مجتمع وفكر وإبداع، ودورهم ليس سفراء سلطة خارج سورية فحسب، ولكن داخل سورية أيضًا، أي أنه بعد ربط كلمة سورية بلفظة الأسد، أصبح في خلفية المتلقي أن سورية، وكل ما تنتجه، وإن كان مجرد أغنية، هو تحت رعاية الأسد، وما وفرته سلطته من مستلزمات أو أدوات وقوانين.
كما أصبح باب الإنتاج الدرامي ممرًّا؛ لنسج علاقات تمويلية مع مراكز المال المعنية، والباحثة عن ربح مباشر ووفير (مثل: بعض المؤسسات في الخليج العربي)، فكان مصدرًا مهمًّا لدخل الشريحة التي عملت في هذا المجال من جهة، ودخل المؤسسات السورية الوسيطة، من جهة أخرى، وكان هذا الباب مهمًا، كمدخل لتنظيم علاقات تفضي -في النهاية- إلى تبادل مصالح نفعية أخرى، لجهة مراكز الإعلام والتلفزة، التي سوقت عبر تسويق الدراما السورية لسورية السلطة، وليس لسورية الدولة والمجتمع. وسورية السلطة تعني “سورية الأسد”، الذي قدم التسهيلات والرعاية للدراما التي أحبها الناس، وفق منظوره آنف الذكر.
إن تسييس الدراما لا يعني جعلها تتكلم السياسة، بل أن تكون هادفة لغاية سياسية، وهذا ينطبق تمامًا على الدراما السورية التي أُديرت بدقة متناهية، بما فيها الأعمال “الناقدة”، وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن شركات الإنتاج الدرامي كافة، مملوكة لرجالات السلطة، أو لمن ينتمون إلى شبكة العلاقات والمصالح تلك؛ فمن شركة “شام” التي كان يملكها جمال خدام، ابن عبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية، إلى شركة “سورية الدولية” التي يملكها محمد حمشو، عضو “مجلس الشعب”، ورجل ماهر الأسد.
وفي كل الأحوال، فإن عملية الإنتاج الدرامي كانت مُحكمة ومراقبة بشكل حثيث، وربما كانت العملية التصنيعية الوحيدة، التي تميزت بها سورية -عربيًا- في السنوات القليلة الماضية، ضمن مخطط محسوب، وجده النظام في متناول يده مع انطلاق الثورة وخلالها، وبات نجومها من أهم المسوّقين للنظام دعائيًّا، وهنا كان بيت القصيد، باستثناء عدد بسيط من الذين ابتعدوا، وسجلوا موقفًا في وضع صعب، لكنه تاريخي وحاسم؛ ما يثبت حالة الرقابة الحثيثة، والمستديمة، التي راقبت تأسيس هذا الوسط المعقد، وجعلته مطواعًا بيد نظام الأسد حتى الساعة.